فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وأنّا مِنّا المسلمون ومِنّا القاسطون} أي وأنّا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنّا من أسلم ومنّا من كفر.
والقاسط: الجائر، لأنه عادل عن الحقّ، والمُقْسِط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق؛ يقال: قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال الشاعر:
قومٌ هُمُ قتلوا ابن هِندٍ عنْوة ** عمْرا وهم قسطُوا على النُّعْمانِ

قوله تعالى: {فمنْ أسْلم فأولئك تحرّوْاْ رشدا} أي قصدوا طريق الحق وتوخّوه ومنه تحرّى القِبلةِ {وأمّا القاسطون} أي الجائرون عن طريق الحقّ والإيمان {فكانُواْ لِجهنّم حطبا} أي وقودا.
وقوله: {فكانُوا} أي في علم الله تعالى.
قوله تعالى: {وألّوِ استقاموا على الطريقة}
هذا من قول الله تعالى.
أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسّعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق.
وهذا محمول على الوحي؛ أي أوحى إليّ أن لو استقاموا.
ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من (أن) المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجِن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح {وأنْ لوِ استقاموا} أضمر يمينا تامّا، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة؛ كما يقال في الكلام: والله أنْ قمت لقمتُ، ووالله لو قمت قمتُ؛ قال الشاعر:
أما واللّهِ أن لو كُنت حُرّا ** وما بِالحُرّ أنت ولا العتِيقِ

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها أعنى الخفيفة على {أوحي إليّ أنّهُ}، {وأنْ لوِ استقاموا} أو على {آمنّا بِهِ} وبأن لو استقاموا.
ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى (أن) المخففة، أن يعطف المخففة على {أوحي إليّ} أو على {آمنّا بِهِ}، ويستغني عن إضمار اليمين.
وقراءة العامة بكسر الواو من (لو) لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن وثّاب والأعمش بضم الواو.
و{مّاء غدقا} أي واسِعا كثيرا، وكانوا قد حُبِس عنهم المطر سبع سنين؛ يقال: غدِقتِ العينُ تغدق، فهي غدِقة، إذا كثر ماؤها.
وقيل: المراد الخلق كلُّهم أي {وألّوِ استقاموا على الطريقة} طريق الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين {لأسْقيْناهُم مّاء غدقا} أي كثيرا {لِّنفْتِنهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم.
وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة.
فمعنى {لأسْقيْناهُمْ} لوسّعنا عليهم في الدنيا؛ وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه؛ كقوله تعالى: {ولوْ أنّ أهْل القرى آمنُواْ واتقوا لفتحْنا عليْهِمْ بركاتٍ مِّن السماء والأرض} [الأعراف: 96] وقوله تعالى: {ولوْ أنّهُمْ أقامُواْ التوراة والإنجيل ومآ أُنزِل إِليهِمْ مِّن رّبِّهِمْ لأكلُواْ مِن فوْقِهِمْ ومِن تحْتِ أرْجُلِهِم} [المائدة: 66] أي بالمطر.
والله أعلم.
وقال سعيد بن المسيّب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعُبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشيّ ففُتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفّان.
وقال الكلبيّ وغيره: {وأنّ لوِ استقاموا على الطّرِيقةِ} التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسّعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم، حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة.
وهذا قول قاله الربيع ابن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبيّ والثّمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مِجْلز؛ واستدلوا بقوله تعالى: {فلمّا نسُواْ ما ذُكِّرُواْ بِهِ فتحْنا عليْهِمْ أبْواب كُلِّ شيْءٍ} [الأنعام: 44] الآية.
وقوله تعالى: {ولوْلا أن يكُون الناس أُمّة واحِدة لّجعلْنا لِمن يكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِّن فِضّةٍ} [الزخرف: 33] الآية؛ والأوّل أشبه؛ لأن الطريقة معرّفة بالألف واللام، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخْوف ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من زهْرة الدنيا» قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: «بركات الأرض» وذكر الحديث.
وقال عليه السلام: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا (كما بُسطت على من قبلكم) فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم».
قوله تعالى: {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّهِ} يعني القرآن؛ قاله ابن زيد.
وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر.
الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين.
وقيل: {ومنْ يُعْرِضْ عنْ ذِكْرِ ربِّهِ} أي لم يشكر نعمه {يسْلُكْهُ عذابا صعدا} قرأ الكوفيون وعيّاش عن أبي عمرو {يسْلُكْهُ} بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لذكر اسم الله أوّلا فقال: {ومنْ يُعْرِضْ عنْ ذِكْرِ ربِّهِ}.
الباقون {نسْلُكْهُ} بالنون.
وروى عن مسلم بن جُندب ضم النون وكسر اللام.
وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى؛ أي ندخله.
{عذابا صعدا} أي شاقّا شديدا.
قال ابن عباس: هو جبل في جهنم.
الخدري، كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت.
وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب.
وذلك معلوم في اللغة أن الصّعد: المشقة، تقول: تصعّدني الأمر: إذا شقّ عليك؛ ومنه قول عمر: ما تصعّدني شيء ما تصعدتني خُطبة النكاح، أي ما شقّ عليّ.
وعذاب صعدٌ أي شديد.
والصّعد: مصدر صعِد؛ يقال: صعِد صعدا وصُعودا، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذّب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
وقال أبو عبيدة: الصّعد مصدر؛ أي عذابا ذا صعدٍ، والمشي في الصّعود يشقّ.
والصّعود.
العقبة الكئود.
وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يُكلّف صعودها؛ فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.
وقال الكلبيّ: يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يُجذب من أمامه بسلاسل، ويُضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة.
فإذا بلغ أعلاها أُحْدِر إلى أسفلها، ثم يكلّف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى: {سأُرْهِقُهُ صعُودا}.
{وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا (18)} فيه ست مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وأنّ المساجد لِلّهِ} (أن) بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ} أي قل أوحي إليّ أن المساجد لله.
وقال الخليل: أي ولأن المساجد لله.
والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة.
وقال سعيد بن جبير: قالت الجنّ كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: {وأنّ المساجد لِلّهِ} أي بُنيت لذكر الله وطاعته.
وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: «أينما كنتم فصلّوا فأينما صليتم فهو مسجد» وفي الصحيح: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وقال سعيد بن المسيّب وطلْق ابن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه؛ يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله.
قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها.
وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظُم: الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين» وقال العباس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب» وقيل: المساجد هي الصلوات؛ أي لأن السجود لله.
قاله الحسن أيضا.
فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجِد بكسر الجيم، ويقال بالفتح؛ حكاه الفراء.
وإن جعلتها الأعضاء لواحدها مسجد بفتح الجيم.
وقيل: هو جمع مسجد وهو السجود، ويقال: سجدت سجودا ومسجدا، كما تقول: ضربت في الأرض ضرْبا ومضربا بالفتح: إذا سرت في ابتغاء الرزق.
وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسمّيت مكة المساجد؛ لأن كل أحد يسجد إليها.
والقول الأوّل أظهر هذه الأقوال إن شاء الله، وهو مروي عن ابن عباس رحمه الله.
الثانية: قوله تعالى: {لِلّهِ} إضافة تشريف وتكريم، ثم خصّ بالذكر منها البيت العتيق فقال: {وطهِّرْ بيْتِي} [الحج: 26].
وقال عليه السلام: «لا تُعمل المطِيّ إلا إلى ثلاثة مساجد» الحديث خرجه الأئمة.
وقد مضى الكلام فيه.
وقال عليه السلام: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» قال ابن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا».
ولو صح هذا لكان نصّا.
قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسْب ما بيناه في سورة (إبراهيم).
الثالثة: المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا؛ فيقال: مسجد فلان.
وفي صحيح الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدُها ثنيّة الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمّر من الثنيّة إلى مسجد بني زُريق.
وتكون هذه بالإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
الرابعة: مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال.
ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل.
ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها وفتح الباب للجار إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عرِي عن الباطل.
وقد مضى هذا كله مبينا في سورة (براءة) و(النور) وغيرهما.
الخامسة قوله تعالى: {فلا تدْعُواْ مع الله أحدا} هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام.
وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيّه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها.
يقول: فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد.
وقيل: المعنى أفرِدوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزوا ومتّجرا ومجلسا، ولا طرقا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا.
وفي الصحيح: «من نشد ضالّة في المسجد فقولوا لا ردّها الله عليك فإن المساجد لم تُبْن لهذا» وقد مضى في سورة (النور) ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.
السادسة: روى الضحاك عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى. وقال: {وأنّ المساجد لِلّهِ فلا تدْعُواْ مع الله أحدا} اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حقّ وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى؛ وقال: اللهم صُبّ عليّ الخير صبّا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدّا، واجعل لي في الأرض جدّا» أي غِنى. اهـ.